فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (95- 99):

قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان هذا الصدع في غاية الشدة عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكثرة ما يلقى عليه الأذى، خفف عنه سبحانه بقوله معللًا له: {إنا كفيناك} أي بما لنا من العظمة {المستهزءين} أي شر الذين هم عريقون في الاستهزاء بك وبما جئت به، فأقررنا عينك بإهلاكهم، وزال عنك ثقل ما آذوك به، وبقي لك أجره، وسنكفيك غيرهم كما كفيناكهم، ثم وصفهم بقوله: {الذين يجعلون مع الله} أي مع ما رأوا من آياته الدالة على جلاله، وعظيم إحاطته وكماله {إلهًا}.
ولما كانت المعية تفهم الغيرية، ولاسيما مع التعبير بالجعل، وكان ربما تعنت منهم متعنت باحتمال التهديد على تألهه سبحان على سبيل التجريد، أو على دعائه باسم غير الجلالة، لما ذكر المفسرون في قوله: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110]. الآية آخر سبحان، زاد في الصراحة بنفي كمال كل احتمال بقوله: {ءاخر} قال البغوي: قال ابن عباس- رضى الله عنهما ـ: سجد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمكة ذات ليلة فجعل يقول في سجوده: يا الله يا رحمن، فقال أبو جهل: إن محمدًا ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين؟ فأنزل الله هذه الآية يعني آية سبحان، وتسبب عن أخذنا للمستهزئين- وكانوا أعتاهم- أن يهدد الباقون بقولنا: {فسوف يعلمون} أي يحيط علمهم بشدة بطشنا وقدرتنا على ما نريد، ليكون وازعًا لغيرهم، أو يعلم المستهزئون وغيرهم عاقبة أمورهم في الدارين.
ولما كان صدعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك على حد من المشقة عظيم وإن أريح من المستهزئين، لكثرة من بقي ممن هو على مثل رأيهم، قال يسليه ويسخي بنفسه فيه: {ولقد نعلم} أي تحقق وقوع علمنا على ما لنا من العظمة {أنك} أي على ما لك من الحلم وسعة البطان {يضيق صدرك} أي يوجد ضيقه ويتجدد {بما يقولون} عند صدعك لهم بما تؤمر، في حقك من قولهم: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر} إلى آخره، وفي حق الذي أرسلك من الشرك والصاحبة والولد وغير ذلك {فسبح} بسبب ذلك، ملتبسًا {بحمد ربك} أي نزهه عن صفات النقص التي منها الغفلة عما يعمل الظالمون، مثبتًا له صفات الكمال التي منها إعزاز الولي وإذلال العدو {وكن} أي كونًا جبليًا لا انفكاك له {من الساجدين} له، أي المصلين، أي العريقين في الخضوع الدائم له بالصلاة التي هي أعظم الخضوع له وغيرها من عبادته، ليكفيك ما أهمك فإنه لا كافي غيره، فلا ملجأ إلى سواه، وعبر عنها بالسجود إشارة إلى شرفه وما ينبغي من الدعاء فيه لاسيما عند الشدائد، فقد قال تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45]، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة- ذكره البغوي بغير سند، وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود عن حذيفة- رضي الله عنهم- قال: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا حزبه أمر صلى.
وفي سنن النسائي الكبرى ومسند أحمد عن علي- رضي الله عنهم- قال: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح.
وفي لفظ لأحمد: لقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح.
ولأحمد ومسلم وأبي يعلى عن أبي هريرة- رضي الله عنهم- أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد».
ولما أمره بعبادة خاصة، أتبعه بالعامة فقال: {واعبد ربك} أي دم على عبادة المسحن إليك بهذا القرآن الذي هو البلاغ بالصلاة وغيرها {حتى يأتيك اليقين} بما يشرح صدرك من الموت أو ما يوعدون به من الساعة أو غيرها مما {يود الذين كفروا معه لو كانوا مسلمين} قال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن شرف العبد في العبودية، وأن العبادة لا تسقط عن العبد بحال ما دام حيًا- انتهى.
وقال البغوي: وهذا معنى ما في سورة مريم عليها السلام {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا} [مريم: 31]. فقد انطبق آخر السورة- في الأمر باتخاذ القرآن بلاغًا لكل خير والإعراض عن الكفار- على أولها أتم انطباق، واعتنق كل من الطرفين: الآخر والأول أي اعتناق- والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم قال: {إِنَّا كفيناك المستهزءين} قيل: كانوا خمسة نفر من المشركين: الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وعدي بن قيس والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث قال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى عقب الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظمًا لأخذه فأصاب عرقًا في عقبه فقطعه فمات، وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة فقال: لدغت لدغت وانتفخت رجله حتى صارت كالرحا ومات، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي، وأشار إلى أنف عدي بن قيس، فامتخط قيحًا فمات وأشار إلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات.
واعلم أن المفسرين قد اختلفوا في عدد هؤلاء المستهزئين وفي أسمائهم وفي كيفية طريق استهزائهم، ولا حاجة إلى شيء منها، والقدر المعلوم أنهم طبقة لهم قوة وشوكة ورياسة لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على إظهار مثل هذه السفاهة مع مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في علو قدره وعظم منصبه، ودل القرآن على أن الله تعالى أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم، والله أعلم.
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن قومه يسفهون عليه ولاسيما أولئك المقتسمون وأولئك المستهزؤون قال له: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} لأن الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك فعند هذا قال له: {فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} فأمره بأربعة أشياء بالتسبيح والتحميد والسجود والعبادة واختلف الناس في أنه كيف صار الإقبال على هذه الطاعات سببًا لزوال ضيق القلب والحزن؟ فقال العارفون المحققون إذا اشتغل الإنسان بهذه الأنواع من العبادات انكشفت له أضواء عالم الربوبية، ومتى حصل ذلك الإنكشاف صارت الدنيا بالكلية حقيرة، وإذا صارت حقيرة خف على القلب فقدانها ووجدانها فلا يستوحش من فقدانها ولا يستريح بوجدانها، وعند ذلك يزول الحزن والغم.
وقالت المعتزلة: من اعتقد تنزيه الله تعالى عن القبائح سهل عليه تحمل المشاق، فإنه يعلم أنه عدل منزه عن إنزال المشاق به من غير غرض ولا فائدة فحينئذ يطيب قلبه، وقال أهل السنة: إذا نزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى الطاعات كأنه يقول: تجب على عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكروهات، وقوله: {واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد الموت وسمي الموت باليقين لأنه أمر متيقن.
فإن قيل: فأي فائدة لهذا التوقيت مع أن كل أحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات؟
قلنا: المراد منه: {واعبد رَبَّكَ} في زمان حياتك ولا تخل لحظة من لحظات الحياة عن هذه العبادة، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ}
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
التَّسْبِيحُ: هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، بِالْقَلْبِ اعْتِقَادًا، وَبِاللِّسَانِ قَوْلًا.
وَالْمُرَادُ بِهِ هاهنا الصَّلَاةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعْلَمُ ضِيقَ صَدْرِك بِمَا تَسْمَعُهُ مِنْ تَكْذِيبِك وَرَدِّ قَوْلِك، وَيَنَالُهُ أَصْحَابُك مِنْ إذَايَةِ أَعْدَائِك؛ فَافْزَعْ إلَى الصَّلَاةِ، فَهِيَ غَايَةُ التَّسْبِيحِ وَنِهَايَةُ التَّقْدِيسِ، {وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَإذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إلَى الصَّلَاةِ}، وَذَلِكَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: {وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ}، أَيْ مِنْ الْمُصَلِّينَ وَهِيَ:
المسألة الثانية:
فَإِنَّ دِعَامَةَ الْقُرْبَةِ فِي الصَّلَاةِ حَالَ السُّجُودِ.
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هاهنا الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ نَفْسِهِ، فَيَرَى هَذَا الْمَوْضِعَ مَحَلَّ سُجُودٍ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَدْ شَاهَدْت الْإِمَامَ بِمِحْرَابِ زَكَرِيَّا مِنْ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ طُهْره اللَّهُ يَسْجُدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ لَهُ فِي تَرَاوِيحَ رَمَضَانَ، وَسَجَدْت مَعَهُ فِيهَا، وَلَمْ يَرَهُ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ.
المسألة الثالثة:
قَوْلُهُ: {وَاعْبُدْ رَبَّك حَتَّى يَأْتِيَك الْيَقِينُ}: أَمَرَهُ بِعِبَادَتِهِ إذَا قَصَّرَ عِبَادُهُ فِي خِدْمَتِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ طِبُّ عِلَّتِهِ، وَهِيَ كَمَا قَدَّمْنَا أَشْرَفُ الْخِصَالِ، وَالتَّسَمِّي بِهَا أَشْرَفُ الْخُطَطِ.
قَالَ شُيُوخُ الْمَعَانِي: أَلَا تَرَيْ كَيْفَ سَمَّى اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ عِنْدَ أَفْضَلِ مَنَازِلِهِ، وَهِيَ الْإِسْرَاءُ، فَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} وَلَمْ يَقُلْ نَبِيِّهِ وَلَا رَسُولِهِ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ الشَّاعِرُ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللَّفْظِ حَيْثُ يَقُولُ: يَا قَوْمِ قَلْبِي عِنْدَ زَهْرَاءَ يَعْرِفُهُ السَّامِعُ وَالرَّائِي لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهَا فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي.
المسألة الرابعة:
الْيَقِينُ: الْمَوْتُ، فَأَمَرَهُ بِاسْتِمْرَارِ الْعِبَادَةِ أَبَدًا، وَذَلِكَ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَكَانَ هَذَا أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ أَبَدًا، لِاحْتِمَالِ لَفْظَةِ الْأَبَدِ لِلَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِجَمِيعِ الْأَبَدِ، كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيًّا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْيَقِينَ الْمَوْتَ «أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةَ وَكَانَتْ بَايَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْ أَنَّهُمْ اقْتَسَمُوا الْمُهَاجِرِينَ قُرْعَةً، فَصَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ قَالَتْ: فَأَنْزَلْنَاهُ مَعَ أَبْنَائِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْك أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْك، لَقَدْ أَكْرَمَك اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ؟ قُلْت: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَهْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ...»الْحَدِيثَ.
وَيَتَرَكَّبُ عَلَى هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَبَدًا، وَقَالَ: نَوَيْت يَوْمًا أَوْ شَهْرًا كَانَتْ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ.
وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتهَا حَيَاتَهَا لَمْ يُرَاجِعْهَا، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ، واَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {إنّا كفيناكَ المستهزئينَ}
وهم خمسة: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطلاطلة.
أهلكهم الله جميعًا قبل بدر لاتسهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسبب هلاكهم ما حكاه مقسم وقتادة أن الوليد بن المغيرة ارتدى فعلق سهم بردائه، فذهب فجلس فقطع أكحله فنزف فمات، وأما العاص بن وائل فوطىء على شوكة، فتساقط لحمه عن عظامه، فمات، وأما أبو زمعة فعمى، وأما الأسود بن عبد يغوث فإنه أتى بغصن شوك فأصاب عينيه، فسالت حدقتاه على وجهه، فكان يقول: دعا عليّ محمد فاستجيب له، ودعوت عليه فاستجيب لي، دعا عليّ أن أعمى فعميت، ودعوت عليه أن يكون طريدًا بيثرب، فكان كذلك، وأما الحارث بن الطلاطلة فإنه استسقى بطنه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حين نزل عليه بقوله تعالى: {إنا كفيناك المستهزئين} دع لي خالي يعني الأسود بن الطلاطلة فقال له: كفيت.
قوله عز وجل: {ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك} أي قلبك لأن الصدر محل القلب.
{بما يقولون} يعني من الاستهزاء، وقيل من الكذب بالحق.
{فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين} فيه وجهان:
أحدهما: الخاضعين.
الثاني: المصلين.
{واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} فيه وجهان:
أحدهما: الحق الذي لا ريب فيه من نصرك على أعدائك، قاله شجرة.
الثاني: الموت الذي لا محيد عنه، قاله الحسن ومجاهد وقتادة. اهـ.

.قال ابن عطية:

ثم أعلمه الله تعالى بأنه قد كفاه {المستهزئين} من كفار مكة ببوائق إصابتهم من الله تعالى لم يسع فيها محمد ولا تكلف فيها مشقة، وقال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير: المستهزئون خمسة نفر: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب أبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، ومن خزاعة الحارث بن الطلاطلة، وهو ابن غيطلة، وهو ابن قيس، قال أبو بكر الهذلي: قلت للزهري: إن ابن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزئين، فقال ابن جبير هو الحارث بن غيطلة، وقال عكرمة هو الحارث بن قيس، فقال الزهري صدقا أمه غيطلة وأبوه قيس وذكر الشعبي في {المستهزئين} هبار بن الأسود، وذلك وهم لأن هبارًا أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة، وذكر الطبري عن ابن عباس: أن {المستهزئين} كانوا ثمانية كلهم مات قبل بدر، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في المسجد، فأتاه جبريل فجاز الوليد فأومأ جبريل بأصبعه إلى ساقه، وقال للنبي عليه السلام: كفيت ثم جاز العاصي، فأومأ إلى أخمصه، وقال: كفيت، ثم مر أبو زمعة فأومأ إلى عينه، ثم مر الأسود بن عبد يغوث، فأومأ إلى أخمصه، وقال: كفيت، ثم مر أبو زمعة فأومأ إلى عينه، ثم مر الأسود بن عبد يغوث، فأومأ إلى رأسه، وقال كفيت، ثم مر الحارث، فأومأ إلى بطنه، وقال: كفيت، وكان الوليد قد مر بقين في خزاعة فتعلق سهم من نبله بإزاره، فخدش ساقه، ثم برىء فانتقض به ذلك الخدش بعد إشارة جبريل، فقتله، وقيل إن السهم قطع أكحله، قاله قتادة ومقسم، وركب العاصي بغلة في حاجة فلما جاء ينزل وضع أخمصه على شبرقه فورمت قدمه فمات، وعمي أبو زمعة، وكان يقول: دعا علي محمد بالعمى فاستجيب له، ودعوت عليه بأن يكون طريدًا شريداَ فاستجيب لي، وتمخض رأس الأسود بن عبد يغوث قيحًا فمات، وامتلأ بطن الحارث ماء فمات حبنًا.
قال القاضي أبو محمد: وفي ذكر هؤلاء وكفايتهم اختلاف بين الرواة في صفة أحوالهم، وما جرى لهم، جليت أصحه مختصرًا طلب الإيجاز، ثم قرر تعالى ذنبهم في الكفر واتخاذ الأصنام آلهة مع الله تعالى، ثم توعدهم بعذاب الآخرة الذي هو أشق، وقوله تعالى: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون} آية تأنيس للنبي عليه السلام، وتسلية عن أقوال المشركين وإن كانت مما يقلق، وضيق الصدر يكون من امتلائه غيظًا بما يكره الإنسان، ثم أمره تعالى بملازمة الطاعة وأن تكون مسلاته عند الهموم، وقوله: {من الساجدين} يريد من المصلين، فذكر من الصلاة حالة القرب من الله تعالى وهي السجود، وهي أكرم حالات الصلاة وأقمنها بنيل الرحمة، وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» فهذا منه عليه السلام أخذ بهذه الآية، و{اليقين}: الموت، بذلك فسره هنا ابن عمر ومجاهد والحسن وابن زيد، ومنه قول النبي عليه السلام عند موت عثمان بن مظعون: «أما هو فقد رأى اليقين»، ويروى «فقد جاءه اليقين»، وليس {اليقين} من أسماء الموت، وإنما العلم به يقين لا يمتري فيه عاقل، فسماه هنا يقينًا تجوزًا، أي يأتيك الأمر اليقين علمه ووقوعه وهذه الغاية معناها مدة حياتك، ويحتمل أن يكون المعنى {حتى يأتيك اليقين} في النصر الذي وعدته. اهـ.